تفسير سورة الحجرات من تفسير ابن كثير
تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) إلى قوله تعالى: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
وهذه أيضا في وفد بني تميم، وكان معهم شيء من الجفاء وغلظ الطبع، لما وفدوا؛ ذكرنا أنهم جاءوا يفاخرون النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم من آثار ذلك جاءوا بشاعرهم وجاءوا بخطيبهم؛ فكان ذلك من اعتزازهم بأنفسهم وترفعهم على غيرهم؛ فلذلك ذكروا أنهم وقفوا عند بابه من الخارج، وأخذوا ينادونه ويقولون: يا محمد اسم> اخرج إلينا؛ فإن مدحنا زين وذمنا شين. ينادونه وهو في داخل حجرته، ويرفعون صوتهم بذلك، ويستحثون خروجه، ويستعجلونه، ويتكلمون .. فيه شيء من الجفاء؛ فنزلت فيهم هذه الآيات: رسم> إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُون قرآن> رسم> .
ينادونه وهو في داخل حجرته، ولم يقتصروا على النداء فقط؛ بل أخذوا يقرعون الباب، وأخذوا أيضا يستحثون يقولون: اخرج إلينا، اخرج إلينا، إن مدحنا زين وذمنا شين. فخرج إليهم وهو يقول: رسم> ذلكم الله، ذاك الله. الله تعالى هو الذي مدحه زين متن_ح> رسم> إذا مدح أحدا؛ فإنه يدل على أنه من أهل السعادة ومن أهل الخير والفلاح رسم> وذمه شين متن_ح> رسم> ؛ أي: ذمه لما يذمه من الخلق يلحقه به شين وقبح وعذاب أليم.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى أنكر على هؤلاء الذين هم جفاة من جفاة الأعراب، في ذلك الوقت كانوا أعرابا؛ يعني: يرحلون ويتنقلون من مكان لمكان، ومن المعلوم أن جفاء الأعراب متمكن، أن الأعراب فيهم الجفاء المتمكن، وفيهم غلظ الطبع، وفيهم القساوة، ولا سيما إذا كان عندهم شيء من الفخر، ولهم شيء من الاعتزاز، وفي نظرهم أنهم أهل شجاعة وأهل كرم وأهل قوة وأهل منعة، وعندهم جنود وعندهم قوة ونحو ذلك.
لما كانوا كذلك افتخروا بهذا الفخر، وصاروا يرفعون أصواتهم بهذه الكلمات. الله تعالى ذكر أن جنس الأعراب معهم جفاء في قوله تعالى: رسم> الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ قرآن> رسم> يعني: أنهم أحرى بالجهل، أجدر وأحرى وأقرب أن يبقوا على جهلهم؛ وذلك لبعدهم عن العلم، وعن التعلم؛ فهم أحرى بأن يكونوا جفاة، وأحرى بأن يبقوا جهلة؛ لا يعلمون شيئا من حدود الله، ولا يعلمون شيئا من أوامره ونواهيه.
قوله: رسم> إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ قرآن> رسم> النداء: هو دعاء الإنسان من بعيد أو من قريب، يقول قائلهم -العرب-
دعـوت لـمـا نابـنـي مســورا اسم> | فلبــى فلبــى يـدي مســور اسم> |
وداع دعـا يا من يجيب إلى النــدا | فلـم يستجبـه عنـد ذاك مجـيب |
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت جهرة | لعـل أبي المغـوار اسم> منـك قـريب |
فقلـت ادعـي وأدعـو إن أنــدى | لصــوت أن ينــادي داعيــان |
رسم> يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ قرآن> رسم> يعني: نفي العقل هاهنا؛ إما أن يراد نفي العقل كله؛ لا عقول لهم؛ معلوم أن عندهم عقولا، ولكن عقول معيشية رسم> أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ قرآن> رسم> ؛ يدل على أن فيهم من هم عقلاء، ولكن الأكثرية لغير العقلاء أي للذين عقولهم ناقصة.
ثم يقول: رسم> وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ قرآن> رسم> يدل على أنهم ما صبروا؛ بل أخذوا يصيحون، ويكررون: يا محمد اسم> ؛ اخرج، يا محمد اسم> اخرج إلينا؛ يكررون ذلك؛ فدل ذلك على أن عندهم شيئا من الجفاء؛ لأنهم نشئوا في البوادي وفي البراري، وهذه عادة أهل البراري.
وكذلك أيضا كانوا أصحاب مواشي يسيرون خلف مواشيهم إبلهم وبقرهم ونحوها؛ يتبعون آثارها، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الذين يتبعون ذلك معهم غلظ الطبع؛ ثبت عنه أنه قال: رسم> إن الفظاظة وغلظ الطبع في الفدادين أصحاب الإبل، والسكينة في أصحاب الغنم متن_ح> رسم> فأكثر أولئك البوادي رعاة إبل، وصفوا في هذا الحديث بأنهم أهل فظاظة، وأهل غلظ طبع. الفظاظة: كون أحدهم فظا غليظ الطبع، والله تعالى قد نزه نبيه عن ذلك في قوله: رسم> وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ قرآن> رسم> ؛ فكذلك هؤلاء كان معهم هذه الصفة؛ فلذلك ما صبروا.
رسم> وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ قرآن> رسم> يعني: لو انتظروا كلمة واحدة. انتظروا رسم> حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ قرآن> رسم> جاء في الحديث أن الذي يستأذن؛ يستأذن ثلاث مرات، ولا يزيد. في الحديث: رسم> إذا استأذن أحدكم ثلاث مرات فلم يؤذن له؛ فلينصرف متن_ح> رسم> فيمكن أن هؤلاء كرروا الاستئذان: يا محمد اسم> يا محمد اسم> يمكن عشر مرات، أو عشرين مرة، وهم يستأذنونه ويقولون: اخرج إلينا؛ فلذلك ما صبروا. رسم> وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ قرآن> رسم> أي تكلموا بالثالثة أو الرابعة؛ اقتصروا على الثالثة ونحوها: رسم> لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ قرآن> رسم> ولكنهم ما صبروا.
يقول: رسم> وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قرآن> رسم> وعدهم بالمغفرة مع ما حصل منهم من هذا الجفاء، وذلك دليل على أن الله تعالى تسبق رحمته غضبه رأس> ؛ كتب على نفسه: رسم> إن رحمتي غلبت غضبي متن_ح> رسم> رسم> وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قرآن> رسم> بعض العلماء يقول: إن المغفرة والرحمة خاصة بمن استغفر وتاب، أو من كان أَهْلًا، لكن الآية دليل، دلالتها ظاهرة من سياقها على أنه يغفر لهم إذا استغفروا، يتوب عليهم إذا تابوا، يرحمهم إذا استرحموه؛ كما هذا هو واقع الأمة؛ كل من تاب إلى الله تعالى وأناب إليه؛ فإن الله يتوب عليه، ويغفر ذنبه.
لعلنا نقف عند هذه الآية، ونكمل الباقي إن شاء الله في الأيام الآتية.
أسئـلة
س: سائل يسأل يا شيخ ويقول: ما رأيك فيمن يذكر عنده حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: لا تذكر هذا فهو قديم، وهل عليه كفارة؟
سؤال> معنى ذلك: أن أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعمل بها؛ لكونها قد مضى عليها مثلا ألف وأربعمائة سنة في نظرهم؛ فلا تناسب هذا الوقت. إذا كان يعتقد أنه لا يجوز العمل بها لقدمها فذلك كفر، إنكار لشمولها؛ أحاديثه -صلى الله عليه وسلم- وسنته باقية يعمل بها إلى قيام الساعة.
مسألة>